الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)
وإلى هذا المعنى ذهب الطبري وغيره في معنى الآية، والمعنى الثاني الذي يحتمله اللفظ أن يكون تخييراً، كأنه قال له: إن شئت فاستغفر وإن شئت لا تستغفر ثم أعلمه أنه لا يغفر لهم وإن استغفر {سبعين مرة} وهذا هو الصحيح لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبيينه ذلك.وذلك أن عمر بن الخطاب سمعه بعد نزول هذه الآية يستغفر لهم فقال يا رسول الله، أتستغفر للمنافقين وقد أعلمك الله أنه لا يغفر لهم، فقال له «يا عمر إن الله قد خيرني فاخترت، ولو علمت أني إذا زدت على السبعين يغفر لهم لزدت»، ونحو هذا من مقاولة عمر في وقت إرادة النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة على عبد الله بن أبي ابن سلول، وظاهر صلاته عليه أن كفره لم يكن يقيناً عنده، ومحال أن يصلي على كافر، ولكنه راعى ظواهره من الإقرار ووكل سريرته إلى الله عز وجل، وعلى هذا كان ستر المنافقين من أجل عدم التعيين بالكفر.وفي هذه الألفاظ التي لرسول الله صلى الله عليه وسلم رفض إلزام دليل الخطاب، وذلك أن دليل الخطاب يقتضي أن الزيادة على السبعين يغفر معها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو علمت فجعل ذلك مما لا يعلمه، ومما ينبغي أن يتعلم ويطلب علمه من الله عز وجل، ففي هذا حجة عظيمة للقول برفض دليل الخطاب، وإذا ترتب كما قلنا التخيير في هذه الآية صح أن ذلك التخيير هو الذي نسخ بقوله تعالى في سورة المنافقون: {سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدي القوم الفاسقين} [المنافقون: 6] ولمالك رحمه الله مسائل تقتضي القول بدليل الخطاب، منها قوله: إن المدرك للتشهد وحده لا تلزمه أحكام الإمام لأن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة» فاقتضى دليل الخطاب أن من لم يدرك ركعة فليس بمدرك، وله مسائل تقتضي رفض دليل الخطاب، منها قول النبي صلى الله عليه وسلم، «وفي سائمة الغنم الزكاة» فدليل الخطاب أن لا زكاة في غير السائمة، ومالك يرى الزكاة في غير السائمة، ومنها أن الله عز وجل يقول في الصيد {من قتله منكم متعمداً} [المائدة: 95] فقال مالك: حكم المخطئ والمتعمد سواء ودليل الخطاب يقتضي غير هذا، وأما تمثيله السبعين دون غيرها من الأعداد فلأنه عدد كثيراً ما يجيء غاية وتحقيقاً في الكثرة، ألا ترى إلى القوم الذين اختارهم موسى وإلى أصحاب العقبة وقد قال بعض اللغويين إن التصريف الذي يكون من السين والباء والعين فهو شديد الأمر، من ذلك السبعة فإنها عدد مقنع هي في السماوات وفي الأرض وفي خلق الإنسان وفي رزقه وفي أعضائه التي بها يطيع الله وبها يعصيه، وبها ترتيب أبواب جهنم فيما ذكر بعض الناس، وهي عيناه وأذناه ولسانه وبطنه وفرجه ويداه ورجلاه، وفي سهام الميسر وفي الأقاليم وغير ذلك.ومن ذلك السبع والعبوس والعنبس ونحو هذا من القول، وقوله: {ذلك} إشارة إلى امتناع الغفران، وقوله: {والله لا يهدي القوم الفاسقين} إما من حيث هم فاسقون، وإما أنه لفظ عموم يراد به الخصوص فيمن يوافي على كفره.
وقوله: {خلاف} معناه بعد وأنشد أبو عبيدة في ذلك: [الكامل] يريد بعدهم ومنه قول الشاعر: [الطويل] وقال الطبري هو مصدر خالف يخالف.قال القاضي أبو محمد: فعلى هذا هو مفعول له، والمعنى {فرح المخلفون بمقعدهم} لخلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم أو مصدر ونصبه في القول الأول كأنه على الظرف، وكراهيتهم لما ذكر هي شح إذ لا يؤمنون بالثواب في سبيل الله فهم يظنون بالدنيا، وقولهم {لا تنفروا في الحر} كان لأن غزوة تبوك كانت في وقت شدة الحر وطيب الثمار والظلال، قاله ابن عباس وكعب بن مالك والناس، فأقيمت عليهم الحجة بأن قيل لهم فإذا كنتم تجزعون من حر القيظ فنار جهنم التي هي أشد أحرى أن تجزعوا منها لو فهمتم، وقرأ ابن عباس وأبو حيوة {خلف} وذكرها يعقوب ولم ينسبها وقرئ {خُلف} بضم الخاء، ويقوي قول الطبري أن لفظة الخلاف هي مصدر من خالف ما تظاهرت به الروايات من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم بالنفر فعصوا وخالفوا وقعدوا مستأذنين.وقال محمد بن كعب: قال: {لا تنفروا في الحر} رجل من بني سلمة.وقال ابن عباس: قال رجل يا رسول الله الحر شديد فلا تنفر في الحر، قال النقاش: وفي قراءة عبد الله {يعلمون} بدل {يفقهون}، وقال ابن عباس وأبو رزين والربيع بن خيثم وقتادة وابن زيد قوله: {فليضحكوا قليلاً} إشارة إلى مدة العمر في الدنيا، وقوله: {وليبكوا كثيراً} إِشارة إلى تأبيد الخلود في النار، فجاء بلفظ الأمر ومعناه الخبر عن حالهم، ويحتمل أن يكون صفة حالهم أي هم لما هم عليه من الخطر مع الله، وسوء الحال بحيث ينبغي أن يكون ضحكهم قليلاً وبكاؤهم من أجل ذلك كثيراً، وهذا يقتضي أن يكون وقت الضحك والبكاء في الدنيا على نحو قوله صلى الله عليه وسلم، لأمته «لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيراً ولضحكتم قليلاً».وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما قال هذا الكلام أوحى الله إليه يا محمد لا تقنط عبادي، و{جزاء} متعلق بالمعنى الذي تقديره {وليبكوا كثيراً} إذ هم معذبون {جزاء}، وقوله: {يكسبون} نص في أن التكسب هو الذي يتعلق به العقاب والثواب، وقوله: {فإن رجعك الله إلى طائفة منهم} الآية، {رجع} يستوي مجاوزه وغير مجاوزه، وقوله تعالى: {إن} مبينة أن النبي صلى الله عليه وسلم، لا يعلم بمستقبلات أمره من أجل وسواه وأيضاً فيحتمل أن يموتوا هم قبل رجوعه وأمر الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم، بأن يقول لهم {لن تخرجوا معي}، هو عقوبة لهم وإظهار لدناءة منزلتهم وسوء حالهم، وهذا هو المقصود في قصة ثعلبة بن حاطب التي تقدمت في الامتناع من أخذ صدقته، ولا خزي أعظم من أن يكون إنسان قد رفضه الشرع ورده كالجمل الأجرب، وقوله: {إلى طائفة} يقتضي عندي أن المراد رؤوسهم والمتبوعون، وعليها وقع التشديد بأنها لا تخرج ولا تقاتل عدواً، وكرر معنى قتال العدو لأنه عظم الجهاد وموضع بارقة السيوف التي تحتها الجنة، ولولا تخصيص الطائفة لكان الكلام {فإن رجعك الله إليهم}، ويشبه أن تكون هذه الطائفة قد ختم عليها بالموافاة على النفاق، وعينوا للنبي صلى الله عليه وسلم، وإلا فكيف يترتب ألا يصلي على موتاهم إن لم يعينهم الله، وقوله: {وماتوا وهم فاسقون} ونص في موافاتهم، ومما يؤيد هذا ما روي أن ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم، عينهم لحذيفة بن اليمان وكانت الصحابة إذا رأوا حذيفة تأخر عن الصلاة على جنازة رجل تأخروا هم عنها.وروي عن حذيفة أنه قال يوماً: بقي من المنافقين كذا وكذا، فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنشدك الله أنا منهم؟ فقال لا، والله، لا أمنه منها أحداً بعدك، وقرأ جمهور الناس {معي} بسكون الياء في الموضعين، وقرأ عاصم فيما قال المفضل {معيَ} بحركة الياء في الموضعين، وقوله: {أول} هو الإضافة إلى وقت الاستئذان.والخالفون جميع من تخلف من نساء وصبيان وأهل عذر غلب المذكر فجمع بالياء والنون وإن كان ثم نساء، وهو جمع خالف، وقال قتادة الخالفون النساء، وهذا مردود، وقال ابن عباس: هم الرجال، وقال الطبري: يحتمل قوله: {مع الخالفين} أن يريد مع الفاسدين، فيكون ذلك مأخوذاً من خلف الشيء إذا فسد ومنه خلوف فم الصائم.قال القاضي أبو محمد: وهذا تأويل مقحم والأول أفصح وأجرى على اللفظة، وقرأ مالك بن دينار وعكرمة {مع الخلفين} وهو مقصور من الخالفين، كما قال: عرداً وبرداً عارداً وبارداً، وكما قال الآخر: [الرجز]
وقد مضى هذا كله مستوعباً في صدر هذا الكتاب، و{أن} في قوله: {أن آمنوا} يحتمل أن تكون مفسرة بمعنى أي فهي على هذا لا موضع لها، ويحتمل أن يكون التقدير ب أن فهي في موضع نصب، و{الطول} في هذه الآية المال، قاله ابن عباس وابن إسحاق وغيرهما، والإشارة بهذه الآية إلى الجد بن قيس وعبد الله بن أبي ومعتب بن قشير ونظرائهم، و{القاعدون} الزمنى وأهل العذر في الجملة ومن ترك لضبط المدينة لأن ذلك عذر.وقوله: {رضوا بأن يكونوا مع الخوالف} الآية، تقريع وإظهار شنعة كما يقال على وجه التعيير رضيت يا فلان، و{الخوالف} النساء جمع خالفة، هذا قول جمهور المفسرين، وقال أبو جعفر النحاس يقال للرجل الذي لا خير فيه خالفة، فهذا جمعه بحسب اللفظ والمراد أخسة الناس وأخالفهم، وقال النضر بن شميل في كتاب النقاش: {الخوالف} من لا خير فيه، وقالت فرقة {الخوالف} جمع خالف فهو جار مجرى فوارس ونواكس وهوالك، {وطبع} في هذه الآية مستعار، ولما كان الطبع على الصوان والكتاب مانعاً منه وحفاظاً عليه شبه القلب الذي قد غشيه الكفر والضلال حتى منع الإيمان والهدى منه بالصوان المطبوع عليه، ومن هذا استعارة القفل والكنان للقلب، و{لا يفقهون} معناه لا يفهمون.
|